سفارة الجمهورية اليمنية بالقاهرة والمندوبية الدائمة لدى جامعة الدول العربية |
|
إيثاكا و حدها التي حضرت .. من داخل الصالون الثقافي اليمني
القاهرة / مروان الغفوري / 28 يوليو
1110
- لم يكن أوديسيوس (عوليس) هو وحده الذي خبّأ حنينه الأزلي لإيثاكا ( قريته الأم ) رغم شتاته في البحر ، بما قد يفهم منه أنها لعنة أبوللو و المغلوبين من أبناء طروادة ، لعشرين سنة ، و برغم الوعد الأسطوري لأميرة البحر (كاليبسو) بأن تمنحه فرصة أكيدة بالخلود إن هو منحها قلبه و هدّم آثار ( إيثاكا ) فيه ..
ليس عوليس العاشق وحده . بإمكاني القول أنّ أسامة بن منقذ في " المنازل و الديار " كان أكثر عشقاً لإيثاكا الوطن - المرأة ، ليس لأنّ كفّه التي تحسّست وجه مدينته ، بعد غيابه الطويل عنها، لم تجد شيئاً تعرفه من قبل ( الأهل - الدار - البئر - الصبا ) بل أكثر من ذلك ، فقد جسّد في سِفْرِه ذاك جوهر النوستالجيا " الحنين " العربيّة للدار ، للمكان البكر . و ما يجعلنا نحنُ العرب أكثر ارتباطاً وجدانيّاً بديارِنا هو الحالة السوسيولوجيّة الخاصة التي ربطت ذاكرتنا العربيّة بالدار : حل و ترحال ، و مواطنة كلإ و مرعى . كما أن الكلأ ، و إن بدا مبرّراً موضوعيّاً للهجرة، فشِل في أن يكون ذاته بديلاً وجدانياً لدالة الوطن .
صحيح أننا ، نحن اليمانين، كنّا أقل العرب حديثاً عن الدار فقد كانت دالة الوطنِ لدينا ناضجة بما يكفي لأن نعيش مجتمعاً حضاريّاً توجّهَ شِعرُه إلى الظاهرة الجمالية بكل قيمِها و آفاقها ، إلا أن غربتنا الأولى ( بُعَيد تهدّم السد ) و غربتنا الثانية ( إبّان الفتوحات الإسلامية و اتّخاذ اليمن كنانة لله في الوجود ) ثم غربتنا الراهنة بحثاً عن كلإ جديد ، و لأول مرّة في تاريخ اليماني الذي قيل عنه قديماً : جاعت حمير حتى أكلت الحنطة ، و كأن الحنطة كانت من أراذل الطعام الذي لم يألفه الرجل المتحضّر آنذاك " اليماني بالتحديد " ، كل هذه الاغترابات استطاعت أن تتوحّد مع استشعارنا الجمالي ، و أن تفتح للديار نافذة لا تنطفئ.
و الحال كذلك ، عربيّاً .. لذا لم أستغرِب و أنا أقدّم الشاعر السوري ( عدنان برازي ) في الصالون الثقافي اليمني في القاهرة و الذي يديرُه الإعلامي اليماني ( خالد عمر ) و يشرف عليه سعادة السفير د . عبد الولي الشميري ، بنفسه .
لم أستغرب ، إذن ، و أنا أجد " برازي " يفتتح ترحاله في الشعر بروائعه من ( عشق لعيون دمشق ) .. بإيثاكاه الخاصّة ، و عشقه الأسطوري لهذه المدينة رغم كل شيء .. غربته الطويلة، سجنه الدمشقي ، عذاباته الموجعة ربما بسبب هذه المدينة المعشوقة .
المهاجر الآخر ، الشاعر اليماني الشعبي أحمد سليمان ، وهو الضيف الآخر في هذه الأمسية ، تحدّث عن حالة من الوجدان بلون التوحّد الشعري و الوجداني مع إيثاكاه أيضاً . تحدّث عن صنعاء التي يمرّ بين شفتيها في كل يوم خمس مرّات بقصائده البيضاء ( هكذا يتحدّث عن شعره : أنا أكتب القصيدة البيضاء ) ووعد هذه المدينة الغافية بأنّ رحلته لن تكون ك " عوليس" و أنّه قادم ، رغم قسوة الأصدقاء و الإنسان ، و اغترابه فيها . و كانت المصادفة ، التي فسّرنا سرّها - سلفاً- بحنيننا الشوفيني ، أن أهديهما و أنا على منصة الأمسية نسختين من ديواني الجديد ( ليال) و الذي لم يكن إلا نوستالجيا أخرى بها رائحة المرأة الوطن و الوطن المرأة .. و لم يكن غريباً أن تكون ( ليال - المعشوقة ) في غافيةً الصفحة الأولى ، و أن تكون ( صنعاء ، بفطرتها الأولى ) تفتتحُ الصفحة التالية بجسدها الطري و إنسانها الأول ، كتجسيد لحالتي الهوى و الاغتراب ، إيثاكا و البحر ..
في الوقت ذاته ، و إيثاكا حاضرةٌ بزخمها الفذ ، وصلني ديوان الشاعرة اليمانيّة ( جميلة الرجوي ). كانت الشاعرة تقفُ كالمعنى الجماليّ نفسه بين الحضور، و كما توقّعت فما أيسر أن وقعت عيني على ( ترنمية عشق ، إلى صنعاء ) .. أليست إيثاكا ، إذن، و أليس زعيم هذا العشق الزمـ/كاني هو ابن منقذ ، و الراحل العربي القديم ، قبله ..
و بعيداً عن إيثاكا ، فقد كانت الأمسية ماتعة ، لم يتوقّف فيها الشاعران عند حد .. ما بين العامي و الفصيح ، و الجمال و " القفشة " ، و الطرافة و الكثافة الشعرية ، و ختمها الحنين الآخر ، ليس لإيثاكا هذه المرّة ، و إنّما من نساء إيثاكا للمهاجر القديم " أوديسيوس ".. وقفت العاشقة الإيثاكيّة ( بينيلوب - و هي المعشوقة الزوجة عند هوميروس ، تحقق معادلة المرأة الوطن ) لتفتح أشجارها للغريب المسافر . بهذا الوصف بمقدوري أن أتحدّث عن تداخل الشاعرة المصرية ( سلوى صلاح ) في الأمسية ، و تلاوتها لفرحها و خوفها الأنوثي بعاميتها
المصريّةالواعية . لقد كانت فعلاً ليلةً من ليالي الشعر ، استطاعت أن تحرّض على الجمال لما يقرب من الساعتين ، دون ملال ..
ربما كنّا بحاجةٍ ماسّة إلى التداوي بالشعر ، هذا ما قلتُه في مقدّمة الحفل ، في حين ختمتُه بـ: عندما أقف بجوار شاعرين أخضري القلب كضيفينا ، و أمام جماهير ممطرة بهذا التقمص الوجداني الذي أراه أمامي ، فليس ثمّ سوى أن أحمِد الله ..